الدولة المدنية:
جاء ظهور الدولة المدنية في أوروبا كنتيجة للخروج على الدولة الثيوقراطية، والتخلص مِن سيطرة الكنيسة واستبداد الحكام الذين استمدوا سلطانهم مِن الكنيسة؛ فكان الغرض الاستقلال عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ لذا أعلنها الأوروبيون علمانية تفصل الدين عن الدولة صراحة، وحصروا سلطان الكنيسة التي تمثل الدين عندهم داخل جدرانها.
وأعلنها الأوروبيون ديمقراطية ترفض سيطرة الأباطرة والملوك والإقطاعيين وتجعل الحكم فيها لكل فئات الشعب بلا تمييز.
فيحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، يختار مَن يحكمه، ويكون مصدر السلطات مِن نواب يمثلونه، في سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، في ظل حق الشعب في التقنين والتشريع بعيدًا عن سلطة الكنيسة؛ أي أنه في الدولة المدنية تجتمع سلطة الحكم وسلطة التشريع في يد الشعب بكل فئاته بلا تمييز.
وقد بلغ الخروج على الكنيسة مداه بانقسام الكنيسة على نفسها لما عارض القس الألماني "مارتن لوثر" ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، واصطدم في ذلك ببابا الكاثوليك وسلطانه حتى أنكر عصمته، وأسس طائفة البروتستانت في أوروبا؛ فكانت صورة أخرى مِن صور التحرر التدريجي مِن الاستبداد السائد، فظهرت الاتجاهات الليبرالية "التحررية" الداعية إلى حرية العمل والتجارة والتنقل والتملك، والاعتقاد والعبادة بعيدًا عن تسلط الكنيسة وتعدي الملوك والإقطاعيين.
وتعددت المناهج والاتجاهات المتصارعة إلى حد التناقض في السياسة والاقتصاد والنواحي الاجتماعية والأخلاقية في ظل علمانية تفصل الدين -أي دين- عن الدنيا، وليبرالية تحررية ترى العيش في فوضى فكرية خير مِن قيود الاستبداد.
فتحولت أوروبا إلى حضارة مادية تعادي الدين -أي دين- فتستحل الربا والزنا والخمور والشذوذ الجنسي وتتعصب للأوروبي الأبيض إلى درجة تستعبد بها الشعوب الفقيرة، وتبيد الشعوب الضعيفة لتستولي على أراضيها وخيراتها وثرواتها بلا وخز ضمير أو تأنيب!
وتمارس علمانية ملحدة وديمقراطية طاغية ترى الحق مع ما يعلي شأنها، وترى الباطل مع مَن يتصدى لها، وزاد مِن كبرها أنها حازت السبق في ميادين العالم والمعرفة والتكنولوجيا والإنتاج والتفوق العسكري؛ فجعلتها أدواتها في السيطرة على شعوب العالم أجمع باسم: العولمة، والنظام العالمي الجديد.